إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم( إلى آخر الآيات
وحاصلها أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض غزواته، ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت الصديق، فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها،فلم يفقدوها، ثم استقل الجيش راحلا، وجاءت مكانهم، وعلمت أنهم إذا فقدوها،رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم، وكان صفوان بن المعطل السلمي، من أفاضل الصحابة رضي الله عنه، قد عرس في أخريات القوم ونام،
فرأى عائشة رضي الله عنها فعرفها، فأناخ راحلته، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه، ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة، فلما رأى بعضالمنافقين الذين في صحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال، أشاع ما أشاع، ووشى الحديث، وتلقفته الألسن،
حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين، وصاروا يتناقلون هذا الكلام، وانحبس الوحيمدة طويلة عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وبلغ الخبر عائشة بعد ذلكبمدة، فحزنت حزنا شديدا، فأنزل الله تعالى براءتها في هذه الآيات، ووعظالله المؤمنين، وأعظم ذلك، ووصاهم بالوصايا النافعة. فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} أي: الكذب الشنيع، وهو رمي أم المؤمنين {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي: جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين، منهم المؤمن الصادق [في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين} ومنهم المنافق.
{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها، والتنويه بذكرها، حتى تناولعموم المدح سائر زوجات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولما تضمن من بيانالآيات المضطر إليها العباد، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة، فكلهذا خير عظيم، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك،
وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم، وأخبر أن قدحبعضهم ببعض كقدح في أنفسهم، ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم و تعاطفهم، واجتماعهم على مصالحهم، كالجسد الواحد، والمؤمن للمؤمن كالبنيانيشد بعضه بعضا، فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه، فليكره من كل أحد، أنيقدح في أخيه المؤمن، الذي بمنزلة نفسه، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة،فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك، وقد حد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم جماعة، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} أي: معظم الإفك، وهو المنافق الخبيث، عبد الله بن أبي بن سلول ـ لعنه الله ـ {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.
ثم أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}أي: ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرًا، وهو السلامة مما رموا به، وأن مامعهم من الإيمان المعلوم، يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل، {وَقَالُوا} بسبب ذلك الظن {سُبْحَانَكَ} أي: تنزيها لك من كل سوء، وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة، {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}أي: كذب وبهت، من أعظم الأشياء، وأبينها. فهذا من الظن الواجب، حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن، مثل هذا الكلام، أن يبرئه بلسانه، ويكذب القائل لذلك.