منذ أن عرف الإنسان الطلاق وهو يتساءل عن آثاره في الأطفال.. البعض يقول إنه يدمر الأطفال وبالتالي لا بد للزوجين المختلفين من تجنبه وتحمل العذاب من أجل الأطفال وحفاظاً عليهم، في حين يقول آخرون إنه في حال تفاقم الخلافات بين الزوجين من الضروري جداً حدوث الطلاق من أجل الأطفال، لأن خلافات الأبوين أكثر تدميراً وأشد ضرراً على الأطفال من الطلاق نفسه.
قبل معرفة المزيد عن الأضرار أو الفوائد التي يطرحها هؤلاء وأولئك، لا بد من الوقوف أمام بعض الحقائق التي تؤكدها أرقام رسمية في الولايات المتحدة، ومن المرجح أنها تتشابه في بقية أنحاء العالم أيضاً.
على الرغم من ارتفاع معدلات الطلاق ووصولها إلى مستويات مخيفة إلى حد كبير، تؤكد الأرقام الرسمية أن معدلات طلاق الزواج الثاني في حال وجود أطفال أعلى من معدلات طلاق الزواج الأول، والشيء ذاته يقال عن طلاق الزواج الثالث بوجود أطفال أيضاً فمعدلاته أعلى من معدلات سابقيه.. أي أن أياً من الزوجين اللذين يفكران بالطلاق ويتصوران أن الزواج للمرة الثانية سيحقق السعادة المفقودة لهما ولأطفالهما فهما حالمان، وما يقال هنا يمكن تكراره على مسامع اولئك الذين تزوجوا وطلقوا مرتين، ويفكرون بتكرار التجربة للمرة الثالثة أملاً بإسعاد الأطفال حسب اعتقادهم.
هذه المعلومات وتلك الأرقام لا تعني التعميم فهناك استثناءات تؤكد نجاح الزواج الثاني أو الثالث، لكن بالنسبة لأطفال الطلاق، فالحقيقة تشير إلى أن الأبوين اللذين ينهيان زواجهما بالطلاق يظلان بطريقة أو بأخرى مرتبطين بحياة أطفالهما حتى آخر لحظة في حياة الأبوين.
ماذا يريد الطفل؟
الأسباب بسيطة وواضحة، فالطفل في حاجة الى الحب والرعاية والى الشعور بالأمان أيضاً.. إنه في حاجة الى الحصول على الحب والرعاية من والديه بصورة مباشرة وفي بيئة يظللها الحب والرعاية.
تؤكد الدراسات أن الطفل لا يمكن أن يكتفي بأن يحظى بحب والديه، مهما كبر هذا الحب، إذا لم يكن الأبوان يحملان مشاعر الحب والاحترام كل منهما للآخر، لأن أضرار مثل هذا الوضع على الطفل تكون أكبر مما نتصور.
يقول خبراء الأسرة في تفسير هذه النتيجة التي يتعامى عنها الكثير من الآباء والأمهات إن الأطفال يتمتعون بحساسية شديدة تجاه مثل هذا الوضع الشاذ، بل ان حساسيتهم هذه أقوى مما يظن الكثيرون، كما أن ذكاءهم أكبر من أعمارهم، لأنهم سوف يكتسبون عقلية المعاداة والكراهية والمشاكسة من الوالدين مما يؤثر في علاقاتهم المستقبلية.
الدرس الأول
من الضروري أن يعرف المتزوجون أن طريقة تعاملهم تنطبع في عقلية الصغار باعتبارها الدرس الأول لهؤلاء الأطفال عن الحياة الزوجية، ويظل هذا الدرس القاسي ملازماً لهم حتى بعد أن يتزوجوا ويواجهوا المشكلات ذاتها التي واجهها آباؤهم وأمهاتهم من قبل.
من الضروري أيضاً للمتزوجين أن يعرفوا أن تصرفاهم وطريقة معاملة كل منهم للآخر، عن قصد أو عن غير قصد، تؤثر بصورة مباشرة في مستقبل أطفالهم.. تنطبع في ذاكرة الأطفال ولا يمكن أن تمحى.
زواج بأي ثمن
يقول خبراء الأسرة إن هذه الحقائق يجب ألا تعني الاستمرار بأي ثمن في زواج لا يحمل أياً من مقومات النجاح للحياة الزوجية المشتركة، لكن الخبراء أنفسهم ينصحون الزوجين اللذين يفكران بالطلاق بإعطاء نفسيهما الفرصة للتفكير والمحاولة من جديد لإنقاذ الزواج من أجل الأطفال.
فالطلاق لا يأتي من فراغ ولا يتم فجأة، بل هو نتيجة تراكم العديد من الأسباب والخلافات التي غالباً ما يدفع الأطفال ثمنها لسنوات وسنوات.. وعندما يتم الطلاق يخسر الأطفال الشعور بالأمان وبالأسرة التي كانت تضمهم.
وحين يصل الزوجان أو أحدهما إلى مرحلة اتخاذ قرار الطلاق، يتصوران أنه الحل الوحيد، وأن أي شيء يمكن أن يحدث في المستقبل يبقى أفضل من الاستمرار في هذا الزواج.
وعلى الرغم من أن المطلقين في غالبيتهم لايرغبون بالضرورة في العودة إلى الزواج نفسه، فهم يتمنون لو أن الأمور في الماضي سارت في اتجاه آخر، ويتمنون في الوقت نفسه لو أنهم عالجوا المشكلات التي سببت الطلاق بطريقة مختلفة، أو لو أنهم تصرفوا مع شريك أو شريكة العمر بطريقة مختلفة وأعطوا أنفسهم فرصة لتغليب مصلحة الأسرة والأطفال على المصالح الضيقة.
خيارات ونصائح
حين النظر في الخيارات الأخرى، يقدم خبراء الأسرة مجموعة من النصائح للمتزوجين الذين تعصف بحياتهم الزوجية الخلافات وتقربهم من الطلاق.
ولعل أكثر هذه النصائح أهمية هي ضرورة تغيير الأسلوب في معالجة الخلافات بين الزوجين.. فما يحصل حين يعطي الزوجان نفسيهما فرصة لتسوية خلافاتهما هو أنهما يستمران في معالجة الأمور بالطريقة ذاتها التي أوصلتهما إلى الخلافات وإلى حافة الطلاق.
ففي التعريف العلمي للغباء، يقول المتخصصون إنه تكرار العمل ذاته والاعتقاد بأن النتائج سوف تتغير في كل مرة.
بالطبع لا أحد يريد أن يوصم بالغباء لكن أن نظل نعالج الخلافات الزوجية بالطريقة ذاتها التي لم تعط النتائج المرجوة في الماضي هو الغباء بعينه.
الدكتورة الأميركية شوشانا بينيت مؤلفة العديد من الكتب المتخصصة بشؤون الأسرة تقول إن العديد من قرائها أكدوا لها أنهم جربوا إنقاذ زيجاتهم ألف مرة، لكن المشكلة هي أنهم في المرة الأولى لم يحققوا أي نجاح، ومع ذلك واصلوا المحاولة 999 مرة فظلت النتيجة واحدة.. فشل يعقبه فشل فكان الطلاق في النهاية هو الحل الوحيد.
لم يحاول أي من هؤلاء طريقة ثانية.. فالطبيب الذي يصف لمريضه دواء معيناً ينتظر الحصول على النتيجة المرجوة، فإذا لم يحصل عليها ضمن وقت محدد يعمل على تغيير الدواء، لأن الاستمرار في دواء لا يساعد المريض لن يوصل إلى أي نتيجة.
الشيء ذاته يصلح في معالجة الخلافات الزوجية.. هناك ألف طريقة وطريقة لتسوية الخلافات فلماذا يغمض المتزوجون أعينهم عنها ويتمسكون بالطرق التقليدية التي أثبتت عقمها في السابق.
مناقشة هادئة
النصيحة الثانية هي أن يجلس الزوجان في ساعة صفاء لمناقشة هادئة من دون اتهامات.. مناقشة بناءة وليست مجادلات عقيمة.. مناقشة الحاضر والمستقبل وتجنب تكرار أخطاء الماضي.. حديث من القلب الى القلب عن الحب الذي كان ويجب أن يبقى.. عن الأسرة الواحدة التي حلم بها الاثنان.. عن كل الوسائل والطرق التي يجب اتباعها لإنقاذ الزواج من الانهيار.
أما النصيحة الثالثة التي تقدمها الدكتورة شوشانا بينيت فهي عدم الاكتفاء بالآمال والأحلام لأن السعادة لا تتحقق بالآمال كما أن الخلافات لا تحل بالأحلام. هناك من المتزوجين من يتجنب المناقشة الهادئة للخلافات لأنهم بكل بساطة لا يجرؤون على عرض ما يريدون والاستماع لما يريد الطرف الآخر من دون صراخ واتهامات متبادلة.
الأحلام الوردية والآمال العريضة والتمنيات الكبيرة لا تبني بيوتاً ولا تحقق سعادة بل على العكس فهي تعطي وعوداً كاذبة فتكون النتيجة شعوراً بالإحباط لدى الطرفين.
من المهم جداً أن يعرف المتزوجون أن الأحلام والتمنيات مسألة ضرورية لكنها لا يمكن أن تعمل كما السحر أو الأعجوبة.. الفعل الصحيح هو الذي يحقق النتائج المرجوة.
بين الواقع والخيال
من النصائح التي ترد على ألسنة خبراء الأسرة ضرورة أن يتمتع المتزوجون بقدر كبير من الواقعية وعدم التحليق بعيداً في عالم الخيال.
يقول هؤلاء إن مستوى الإحباط وخيبة الأمل يتناسب طرداً مع مستوى التوقعات، لأننا كلما أوغلنا بعيداً في توقعاتنا زادت لدينا خيبة الأمل حين لا يتحقق ما كنا نصبو إليه.
ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام، فالموظف يعمل المستحيل للحفاظ على وظيفته ويبذل كل جهد ممكن حتى لا يخسر مصدر رزقه، فلماذا لا يبذل المتزوجون الجهد اللازم لإنقاذ سفينة الزواج من الغرق في بحور الطلاق وتبعاته؟
لماذا لا يخصص المتزوجون الذين يواجهون احتمالات الطلاق الوقت اللازم والجهد المطلوب من أجل تجنب هذا المصير الذي لا يريده أحد؟
لا يجوز أن يكتفي هؤلاء بتخصيص بضع دقائق هنا أو ساعات هناك لمواجهة المشاكل الكبيرة، إذ لا بد من تخصيص كل الجهد وكل الوقت من أجل هذا الهدف الكبير، فالحياة الزوجية يجب أن تكون مقدسة لدى طرفيها، وبالتالي فهي تستحق الوقت والجهد. وكل ما عدا ذلك يعني أن طرفي الزواج ينظران إليه بقدر من الاستهتار واللامبالاة.
فوائد وإيجابيات
في حال قرر الزوجان المضي قدماً في طريق الطلاق لاستحالة الاستمرار في الحياة الزوجية بسبب الخلافات المستعصية، فإنهما يقدمان لأطفالهما درساً بضرورة إيجاد حلول جريئة للمشكلات المستعصية، وعدم البقاء أسرى علاقة تفتقر أهم أسس الاستمرار.. فالطلاق على الرغم من نتائجه المدمرة لطرفيه وللأطفال أيضاً يظل أفضل من الاستمرار في علاقة محكومة بالفشل.
ومن النتائج الإيجابية للطلاق بالنسبة للأطفال أن كلاً من الأبوين يبذل كل ما في وسعه لإسعادهم وإشعارهم بأنه لم يكن الطرف المسؤول عن تدمير حياتهم.
من المؤكد أن الأطفال لن يسعدهم طلاق والديهم، لكنهم يجدون أنفسهم وسط بيئة محكومة بالخلافات وأن الطلاق يمثل لهم ما يشبه الوقف الدائم لإطلاق النار أو المتنفس الذي طال انتظاره لأخذ قسط من الراحة بعد سنوات العذاب.
ختاماً، من المهم أن نشير إلى ما تؤكده الدراسات من أن تحلي الزوجين بالشجاعة الكافية، وبالتالي الخروج من علاقة محكومة بالفشل، إنما يمهد لهما السبيل والفرصة المناسبة للعثور على السعادة الحقيقية بالزواج أو من دون زواج، وفي هذه الحالة يقطف أطفال الطلاق ثمار هذه السعادة، ومع هذه الثمار يكتسبون من الوالدين الشجاعة لمواجهة المشاكل التي يمكن أن يصادفوها في المستقبل، ويكتسبوا في الوقت نفسه حب الحياة وضرورة تقديس الحياة الزوجية أيضاً.