السعادة
تعريف السعادة وأوهامها
عرف الكاتب حفظه الله السعادة فيقول: (السعادة عند أهل اللغة: هي ضد الشقاوة، فلان سعيد، أي: ضد الشقي. وأهل التربية وعلماء النفس يقولون بعبارة موجزة جميلة: هي ذلك الشعور المستمر بالغبطة والطمأنينة، والأريحية والبهجة، وهذا الشعور السعيد يأتي نتيجة للإحساس الدائم بخيرية الذات، وخيرية الحياة، وخيرية المصير). ثم يقول: (أوهام السعادة! سأقف طويلاً أيها الأخ الكريم عند هذه القضية؛ وما ذاك إلا لأنها قضية حاسمة، ومهمة في تحديد مسيرة حياتنا، بل وتحديد مفاهيمنا الخاطئة عن السعادة، والتي منها: السعادة في المال). فهو أولاً ذكر السعادة في المال وأتى بأمثلة على ذلك، كذلك أتى بأمثلة على سعادة الشهرة، ثم سعادة الشهادات، فيقول: (نتساءل كثيراً عن السعادة: هل السعادة في تكديس المال وفي جمع الثروات، وبناء العقارات والقصور؟ هل هذه هي السعادة؟ كثير من الناس يتوهم ذلك، فهذا سعيد؛ لأنه يملك الأرصدة في البنوك! وفلان سعيد، لأنه يملك كذا من الأراضي، وكذا من العمارات. فلان سعيد؛ لأنه يملك كذا وكذا! كثير من الناس يطلق هذا الوهم بلسانه، وكثير منهم يعتقده بقلبه، فيتصرف من هذا المنطلق الخاطئ. أقول: ليست السعادة في جمع المال، على حد قول الشاعر: ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد أخي المسلم! أقف معك حول هذه القضية، أعني: قضية أن السعادة في المال؛ لأنها من أهم القضايا في أوهام السعادة، وجملة القول: ليس كل صاحب مال سعيداً، فكثير من أرباب المال وأصحاب الثروات يعيشون في شقاء وتعاسة دائمة في حياتهم الدنيا قبل الآخرة). ويمكن أن تسألوا أصحاب المال: هل وجدتم السعادة المنشودة؟ يقول: (إنهم يتعبون في جمع المال، وفي حفظه واستثماره)، وقد يكون مشغولاً كيف يستثمر هذا المال؟ وكيف ينمّي هذا المال؟ ثم يقول: (والقلق والخوف من فوات هذا المال وزواله). كم من إنسان يملك المليارات ولكنه خائف قلق، لماذا كل هذا الخوف؟ ولم كل هذا القلق؟ إنه يخاف على هذا المال، يخاف أن تأتي هزة سياسية، أو يأتي لصوص فيسرقون هذا المال. إذاً: فهو يعيش في شقاء، خوف، قلق، هم، غم، بل إنه لا ينام الليل، وهذا أمر مجرب مشاهد ترونه بأعينكم، بل قد يكون المال سبب هلاكه ومماته. كم من غني خُطف أو قُتل بسبب تجارته؟ بل كم من غني حرم من لذاته بسبب أمواله، تجده لا يمشي طليقاً، ولا يمشي حراً، لا يسافر كما يريد، لا ينام كما يريد، كل هذا بسبب أمواله؟ ثم كم من إنسان صاحب مال زال ماله، وزالت ثرواته بسبب أو بآخر، فعاش بقية حياته في تعاسة وشقاء؟
طلب السعادة في المال
إليكم هذه النماذج الناطقة: بدأ الكاتب حفظه الله بقصة قارون مختصرة، فقال: (تلك القصة التي أوردها القرآن الكريم عن قارون ، حيث قال سبحانه وتعالى: "فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ "
[القصص:79]، في قمة سعادته، حتى إن قائلهم يقول: "إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [القصص:79] خرج في زينته فهو ذو حظ عظيم، كل هذا من أوهام السعادة، والنتيجة لكفره بأنعم الله كما يقول الله سبحانه وتعالى:" فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ" [القصص:81] أي: سعادة هذه وأي نهاية هذه؟). وعلى هذا فقول أمية بن خلف وأمثاله يوم القيامة: "مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ" [الحاقة:28]لم يأت من فراغ، فبئس المال الذي لا يغني عن صاحبه شيئاً. والقصة الثانية: قصة كرستينا أوناسيس ، لعل بعض الإخوة يكون قد سمع قصة أوناسيس الملياردير فهو من أغنى أغنياء العالم، وتزوج من زوجة الرئيس الأمريكي السابق جون كنيدي من فترة طويلة، يمكن من أكثر من (20) سنة أو (25) سنة، وحكي لنا عن ثرواته الكثيرة حيث إن له أسطولاً بحرياً وعنده أشياء عديدة، فالكاتب حفظه الله يحكي عن قصة كرستينا ابنة أوناسيس هذا الكافر. يقول: (قصة عجيبة تابعت فصولها على مدى (15) عاماً أو تزيد، وانتهى آخر فصل منها منذ أشهر فقط، إنها قصة: كرستينا أوناسيس ). والله سبحانه وتعالى قد ضرب لنا أمثالاً من الكفار في القرآن، فلا غرو ولا عجب أن نضرب لكم مثلاً باسم هذه المرأة. إليكم قصة هذه المرأة كرستينا أوناسيس : تلك الفتاة اليونانية، ابنة المليونير المالي المشهور أوناسيس ، ذلك الذي يملك المليارات، يملك الجزر، يملك الأساطيل. هذه الفتاة مات أبوها، وقبل ذلك ماتت أمها، وبينهما مات أخوها، وبقيت هي الوريثة الوحيدة مع زوجة أبيها لهذه الثروات الطائلة). يقول: (أتدري أيها القارئ الكريم كم ورثت؟ لقد ورثت من أبيها ما يزيد عن خمسة آلاف مليون ريال! فتاة تملك أسطولاً بحرياً ضخماً! تملك جزراً كاملة! تملك شركات طيران! أخي الكريم! امرأة تملك أكثر من خمسة آلاف مليون ريال، بقصورها وسفنها وطائراتها، أليست في مقاييس كثير من الناس أسعد امرأة في العالم؟! كم من إنسان يتمنى أن يكون مثل هذه المرأة! ألست تعلم أنه لو وزعت ثرواتها على مائة فرد لأصبحوا من كبار الأثرياء، بحيث يصل كل واحد منهم خمسون مليون ريال، فهو إذاً من كبار الأثرياء، فما بالك بامرأة تملك هذه الثروة؟ السؤال هو: هل هذه المرأة سعيدة؟ إليكم فصول قصتها العجيبة، وسيتبين لكم من خلالها الجواب: أما أمها فقد ماتت بعد حياة مأساوية، كان آخر فصولها الطلاق. وأما أخوها: فقد هلك بعدما سقطت به طائرته التي كان يلعب بها. وأما أبوها فقد اختلف مع زوجته الجديدة التي هي جاكلين كنيدي زوجة الرئيس الأمريكي السابق كنيدي ، تلك الزوجة التي تزوجها بملايين الدولارات، يبحث عن الشهرة فقط، ليقال: إنه تزوج بزوجة الرئيس الأمريكي جون كنيدي من أشهر رؤساء أمريكا، ومات مقتولاً، ومع ذلك فقد عاش معها في شقاء دائم. تصور أن من بنود عقد الزواج ألا تنام معه في فراش، وألا يسيطر عليها، وأن ينفق عليها الملايين حسب رغبتها، ومع ذلك فقد اختلفت معه، وعندما مات اختلفت مع ابنته. يقول: (وخلاصة القول أن هذه الفتاة كانت قد تزوجت في حياة أبيها برجل أمريكي، وعاش معها شهوراً، ثم طلقها أو طلقته، وبعد وفاة أبيها تزوجت برجل آخر يوناني، وعاش معها شهوراً ثم طلقها أو طلقته، ثم انتظرت طويلاً تبحث عن السعادة، أتعلمون من تزوجت للمرة الثالثة أغنى امرأة في العالم على الإطلاق؟ أتعلمون من تزوجت؟ لقد تزوجت شيوعياً روسياً، يا للعجب! قمة الرأسمالية تلتقي مع قمة الشيوعية! وعندما سألها الناس والصحفيون بشكل خاص، عندما سألوها: أنت تمثلين الرأسمالية فكيف تتزوجين بشيوعي؟ عندها قالت: أبحث عن السعادة! نعم، لقد قالت: أبحث عن السعادة، وبعد الزواج ذهبت معه إلى روسيا، وبما أن النظام هناك لا يسمح بامتلاك أكثر من غرفتين، ولا يسمح بخادمة، فقد جلست تخدم في بيتها، بل في غرفتيها، فجاءها الصحفيون وهم يتابعونها في كل مكان، فسألوها: كيف يكون هذا؟ قالت: أبحث عن السعادة، وعاشت معه سنة، ثم طلقها بل طلقته، ثم بعد ذلك أُقيمت حفلة في فرنسا، وسألها الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم، أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة! وآخر فصل من فصول المسرحية الحقيقية تزوجت برجل فرنسي، لاحظوا أنها تزوجت من أربع دول وليس من دولة واحدة لعلها تجرب حظها، تزوجت بغني فرنسي أحد رجال الصناعة، وبعد فترة يسيرة أنجبت بنتاً، ثم
طلب السعادة في الرياضة
يقول: (هل السعادة في الشهرة، كالرياضة والفن؟ أقول: لا؛ لأن الشهرة شقاء لا سعادة، ولأن الشهرة لا حقيقة لها إن لم ترتبط بتقوى الله سبحانه وتعالى). يعني: الذي يتقي الله يهرب من الشهرة ويرفضها؛ لأنه يتقي الله عز وجل، يقول الله عز وجل:" تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" [القصص:83]، فلا يلتقي أبداً طلب رضا الله عز وجل وطلب جنة الله عز وجل وطلب الآخرة مع طلب الرفعة والشهرة والمنصب والجاه في الدنيا، فأهل الإيمان لا يعملون للشهرة. يقول: (والذي يتقي الله سبحانه وتعالى لا يريد الشهرة؛ لأن الشهرة إذا ارتبطت بغير سبب أصيل فإنها تزول سريعاً، وإذا زالت عن صاحبها عاش في شقاء وتعاسة، قد يتوهم كثير من الناس أن السعادة موجودة عند صنفين من الناس: هم أهل الرياضة، وأهل الفن). يعني: هؤلاء هم أصحاب الشهرة في هذه المجتمعات الهابطة والساقطة التي تمدح أهل الفن وأهل الرقص وأهل الموسيقى، وأهل الفسق وأهل المعاصي والإباحية، بينما يلاقي أهل الدين من الاضطهاد ومن الحرب ومن التضييق عليهم وغير ذلك، قرأت في إحدى الجرائد عن فريد شوقي أو غيره ممن ملأ الدنيا شراً وفساداً، أن الدولة تتكفّل بعلاجه في الخارج، مع أنه صاحب شركات وصاحب أموال، بينما لو كان هذا المريض من الدعاة إلى الله عز وجل أو من عامة المسلمين فإنه أهون عليهم من الهوان، ولكن القيامة خافضة رافعة، تخفض أقواماً وترفع آخرين، ترفع أهل الدين وأهل الصلاح، وتخفض أهل الفسق وأهل الفجور وأهل المعاصي: "وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [البقرة:212] فالعبرة بما سبق، من أن الله عز وجل يرفع أهل الإيمان وأهل التقوى، ويخفض أهل الفجور وأهل المعاصي. فيقول: (قد يتوهم كثير من الناس أن السعادة موجودة عند صنفين من الناس: هم أهل الرياضة، وأهل الفن. فأقول: أهل الرياضة: معظمهم يعيش الشقاء في أيامه ولياليه، فمن معسكر إلى معسكر، ومن سفر إلى سفر، فلا يكاد يستقر مع أهله إلا قليلاً، ويضطر أغلبهم إلى التفريط بمستقبلهم الدراسي وعدم مواصلته؛ بسبب انشغاله الكامل بالرياضة، أضف إلى ذلك اضطرابهم عند كل مباراة، وكآبتهم عند كل هزيمة، ثم إن الإصابات تتقاذفهم من كل جانب، كما أن الخوف من رأي الجماهير ونظرتها). يعني: أي إنسان يعلق قلبه بغير الله يحس بالشقاء، فهو قد يكسب الشهرة ثم يفقدها، وقد لا يجد الشهرة ويفقد مدح الناس وقد يذمونه فيظل في شقاء، أما المؤمن فإنه يطلب وجه ربه تعالى ولا يلتفت إلى الناس سواء مدحوه أو ذموه، سواء رضوا عنه أم غضبوا. يقول: (كما أن الخوف من رأي الجماهير ونظرتها عند أي هبوط في المستوى يجعلهم يعيشون شقاء متواصلاً، ثم ماذا بعد ذلك؟ إن الناس سرعان ما ينسونهم بعد الاعتزال فيزدادون ألماً وحزناً). إذاً: فليست السعادة عند أهل الرياضة، وإن ظن الكثيرون أنها عندهم.
طلب السعادة في الفن
يقول: (أهل الفن: إن حياتهم أسوأ حياة يعيشها البشر؛ فشل أسري، مخدرات، انحلال، انعدام حياء، موت فضيلة، وأقصد بأهل الفن أهل الغناء والطرب، والتمثيل، ولا أقول هذا من عندي، بل هو من مذكراتهم التي تعج بها الصحف صباح مساء، خذوا على ما أقول ثلاث وقائع). يعني: قد يكونون معذورين، لأن أكثرهم ما وجدوا طريق السعادة الحقيقية وما ذاقوا طعم الإيمان. يحكي أحد من إخواننا في القاهرة، بينما كنا في درس في المسجد، فأرسلت لنا بورقة من خارج المسجد، وكانت الورقة من امرأة تشتغل بالرقص، فتقول: أنا أعمل راقصة، وأنا واقفة خارج المسجد بزي الرقص متبرجة، وأنا قلبي يتقطع من هذا الكلام الذي أسمعه، فمدوا إلي أيديكم، فالمهم أن بعض الأخوات أخذنها وأدخلنها المسجد وألبسنها الحجاب، ثم إن هذه المرأة أتت بستين راقصة وأدخلتهن في دائرة الإسلام وتحجبن، فهن كن في ضياع ولم يذقن حلاوة الإيمان، وكن يظنين أن في المال والشهرة والعبث واللعب توجد السعادة الحقيقية، فلما وجدت هذه المرأة حلاوة الإيمان أتت بالراقصات من الأرياف والقرى، فكان بفضل الله عز وجل أن من عليهن بإيمان عظيم. فهذا يدل على أنهن محرومات، وأنهن في شقاء في القلب؛ بسبب المعاصي، فالإنسان لو أطلق بصره مثلاً في امرأة متبرجة مثلاً يجد شقاء في قلبه، فكيف بالزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس.. وهذه الأشياء؟ فإذا كانت نظرة أو كلمة قاتلة تنبت شقاء وظلمة في القلب، والمؤمن يحس بهذه المعصية إذا فعلها، فكيف بالكبائر؟! وكيف بالذي حياته كلها معاص، وهو بعيد جداً عن شرع الله وبعيد عن طريق الإيمان؟ فلا شك أن هؤلاء عندما يجدون السعادة الحقيقية يحسون أنهم كانوا في وهم وخيال، وأن الذي كانوا فيه لم يكن هو السعادة ولا الحياة الطيبة، فمن فيه خير منهم رجع إلى حظيرة الإيمان. يقول: (لا أقول هذا من عندي -يعني: أن أهل الفن أكثر الناس شقاء- بل هو من مذكراتهم التي تعج بها الصحف صباح مساء، خذوا على ما أقول ثلاث وقائع: الواقعة الأولى: أنور وجدي زوج الممثلة اليهودية ليلى مراد ). يعني: نذكر هذه الأسماء وإن كان الأولى أن ننزه هذه الأماكن منها، ولكن ذكر في القرآن مثل قارون و هامان و أبي بن خلف وفرعون للعبرة والعظة. يقول: (هذه الزوجة قالت في مذكراتها عن زوجها أنور وجدي : إن زوجي كان ممثلاً بسيطاً، فقال: أتمنى أن أملك مليون جنيه حتى ولو أصبت بمرض، فقلت له: ما ينفعك المال إذا جاءك المرض؟ فقال: أنفق جزءاً من المال في علاج المرض، وأعيش ببقيته سعيداً، تقول: فملك أكثر من مليون جنيه، وابتلاه الله بسرطان في الكبد، فأنفق المليون جنيه وزيادة ولم يجد السعادة، حتى إنه كان لا يأكل إلا شيئاً يسيراً من الطعام). يعني: قد يكون عنده مال كثير جداً، ولكنه عنده من الأمراض ما لا يجد طعم الطعام. يقول: (فهو ممنوع من أكل كثير من الأطعمة، وأخيراً مات بهذا المرض حسيراً نادماً). لم يجد سعاة لا في الدنيا ولا في الآخرة، إن كان مات على عمل سيئ. يقول: (الواقعة الثانية: نيازي مصطفى ، هو من كبار المخرجين، لكنه عاش حياته في شقاء وتعاسة، وعندما بلغ السبعين من عمره، وجدوه قد قتل في منزله، ووجدوا أنه في تلك الليلة التي مات فيها، قد أقام حفلة صاخبة، شاركه فيها أكثر من عشر فتيات، وفي الصباح وجدوه أثراً بعد عين، فقد وجدوه قتيلاً!). وكثير من هؤلاء يموت من كثرة شرب الخمر، فيحصل له تسمم من الخمر يموت بسوء خاتمه بسببه والعياذ بالله. يقول: (انظر إلى هذه الحياة، ذعر، وسكر، وخيانة، مات على هذه الحالة المأساوية، نعوذ بالله من سوء الخاتمة. الواقعة الثالثة: عبد الحليم حافظ الرجل الذي عاش حياته مريضاً وحيداً). وأنا كنت أتصور أن عبد الحليم حافظ هذا كان عمره بين العشرين والثلاثين سنة، ولكنه كان قد تجاوز الخمسين سنة، وما تزوج، وعاش حياة كما يعيش غيره من أهل الفن. يقول: ( عبد الحليم حافظ الرجل الذي عاش حياته مريضاً وحيداً من غير زوجة ولا ولد، إلى أن اختطفه الموت، وأنهكه المرض بعد الخمسين بقليل في قمة الشقاء. فالسعادة إذاً ليست إلا بريقاً زائفاً تشع به أعينهم؛ لتوهم الآخرين بذلك، مع أنهم يعيشون في الواقع قمة الشقاء والتعاسة). إذاً: فليست السعادة لا في المال ولا في الشهرة.
طلب السعادة في الشهادات والمناصب
هل السعادة في الشهادات، وأنه يصبح للإنسان شهادة ودرجة عالية؟ يقول: (إذاً: أين السعادة؟ ربما كانت في نيل أعلى الشهادات، في أن يصبح الإنسان دكتوراً!). يعني: عندما كنا في الجامعة كان كثير من الطلاب غاية أمله أن يكون دكتوراً في الجامعة، هذا غاية ما يصبو إليه، ويواصل الليل بالنهار في المذاكرة والعمل من أجل هذه الغاية؛ لأنه يتصور أنه إذا صار دكتوراً في الجامعة سيكون من أعلى الناس منزلة ومن أسعد الناس. يقول: (ربما كانت في نيل أعلى الشهادات، في أن يصبح الإنسان دكتوراً، لكني أقول لكم بكل ثقة: لا، ولنقف قليلاً مع ما يبرهن على هذا بجلاء ووضوح، إليكم هذه القصة الحديثة التي نشرتها مجلة اليمامة: طبيبة تصرخ تقول: خذوا شهاداتي وأعطوني زوجاً! انظروا كيف تقول هذه الطبيبة، تصوروا دكتورة في الطب، وربما كانت في نظر كثير من الناس سعيدة جداً). ثم يقول: (إذاً: لعل أصحاب السعادة هم أصحاب المناصب العالية المرموقة من قادة ووزراء وغيرهم؟ غير أني أقول لكم: لا، أتدرون لماذا؟ لأن المسئولية هم في الدنيا، وإن لم يقم صاحبها بحقها فهي حسرة وندامة يوم القيامة. صاحب المنصب والسلطان لا يفارقه الهم خوفاً من زواله، تجده يشقى للمحافظة عليه، وإذا زال منصبه ولابد أن يزول عاش بقية عمره تعيساً، والمنصب قد يكون سبباً في هلاك صاحبه، ولذلك يعيش في خوف وقلق دائمين. وكفانا على ذلك قصة فرعون وهامان صاحبي المناصب العالية المرموقة اللذان خلد القرآن قصتيهما. أما في العصر الحاضر، فأسرد لكم أمثلة سريعة: المثال الأول: شاه إيران الرجل الذي أقام حفلاً ليعيد فيه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على قيام الدولة الفارسية، وأراد أن يبسط نفوذه على الخليج، ثم على العالم العربي بعد ذلك، ليلتقي مع اليهود، ذلك الرجل الذي كان يتغنى ويتقلب كالطاوس، كيف كانت نهايته؟ لقد تشرد، طرد، ولم يجد بلداً يأويه، حتى أمريكا التي كان أذل عميل لها). يعني: حتى أمريكا رفضت أن تستقبل هذا الشاه المجرم، واستقبلته مصر، وكانت تفتخر بأنها استقبلت شاه إيران المخلوع. يقول: (وظل على هذه الحال حتى مات شريداً طريداً في مصر، بعد أن أنهكه الهم، وفتك به السرطان. أما أولاده وأهله وحاشيته فقد أصبحوا أشتاتاً متفرقين في عدة قارات! المثال الثاني: رئيس الفلبين. هذا الرجل الطاغية ماذا حدث له؟ لقد قلبت نظري كثيراً في قصته، فوجدتها جديرة بأخذ العبرة منها، هذا الزعيم أذاقه الله غصص التعاسة والشقاء في الدنيا قبل الآخرة، فإذا به بين عشية وضحاها يتحول إلى شريد طريد يتنكر له أسياده وأصدقاؤه، ولا يملك الرجوع إلى بلد كان يرتع فيه كما يشاء، حتى إذا جاءت وفاته لم يستطع أن يحصل على أشبار قليلة في بلده يواري فيها سوأته، فسبحان مالك الملك! المثال الثالث: بوكاسا ، وما أدراك ما بوكاسا ! الذي صدر نفسه إمبراطوراً، وما زلنا نذكر صورته وأفعاله في أفريقيا الوسطى. يقول: (عندما زار فرنسا، قام عليه انقلاب، فتشرد في فرنسا حتى ضاقت به الأرض، فجاء إلى بلده باسم مستعار). يعني: أراد أن يدخل بلده فزيف جوازه ودخل باسم مستعار فكشف. قال: (فقبضوا عليه، وحوكم في بلده. ولا أعلم الآن أقتل أم لم يقتل؟ لكن المعلوم أنه أصيب بعدة أمراض: أهونها أمراض التعاسة والهم والغم، في البلد الذي نصب نفسه إمبراطوراً له. هذه بعض الأمثال السريعة، وما أكثر أمثال هؤلاء الذين ذكرت من السابقين واللاحقين، تجري فيهم سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير. إذاً: هذه السعادة الوهمية التي يتصور الناس أنها حقيقة السعادة، كثير من الناس يبدو لأول وهلة أنهم سعداء، وهم في الواقع يتجرعون غصص الشقاء والبؤس والحسرة. يصور هذا المعنى الشاعر حمد الحجي رحمه الله في قصيدة له فيقول: وما لقيت الأنام إلا رأوا مني ابتساماً ولا يدرون ما بي أظهر الانشراح للناس حتى يتمنوا أنهم في ثيابي ثم يقول: ولو دروا أنني شقي حزين ضاق في عينه فسيح الرحاب لتناءوا عني ولم ينظروني ثم زادوا نفورهم في اغتيابي فكأني آتي بأعظم جرم لو تبدت تعاستي للصحاب هكذا الناس يطلبون المنايا للذي بينهم جليل المصاب ومن أوضح الأمثلة على السعادة الوهمية ما تعيشه أوروبا، وبخاصة الدول الإسكندنافية، فهي أغنى الدول)، مثل السويد وغيرها من الدول. يقول: (فهي أغنى الدول، سواء على مستوى الدولة، أو على مستوى دخل الفرد، ومع ذلك فهي تمثل أعلى نسب انتحار. فدولة السويد مثلاً هي أغنى دولة من حيث دخل الفرد، ولكنها أعلى دولة في نسب الانتحار، بينما نجد الدول الإسلامية -مع أن أكثرها فقيرة- تسجل أقل نسبة من نسب الانتحار في العالم). يعني: يشكل الانتحار أعلى قمة الشقاء والعياذ بالله؛ لأنها ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يجد شيئاً من السعادة، فهو يظن أنه قد يجد شيئاً منها بالموت.
الموضوع منقول