عند سفوح جبل فوجي المقدس، ذلك المارد الياباني المكلل بالثلوج على مدار العام، تنتشر على مد البصر غابة كثيفة أسمها أوكيغاهارا (Aokigahara ) ، وتعني "بحر الأشجار"، وهي بالفعل أسم على مسمى، لأنها أشبه ما تكون ببحر متلاطم من قمم الأشجار السامقة التي تشابكت وتداخلت فروعها وأغصانها عبر السنين حتى تحولت إلى مظلة خضراء عملاقة حجبت أشعة الشمس عن القاع المعتم والساكن كسكون الجبانات والمقابر.
|
جذوع الغابة المتفرعة |
هناك في الأسفل، في قاع الغابة المغطى بالطحالب والأوراق، تلوت وتبعثرت الجذوع والجذور المتعطشة لنور الشمس حتى بدت وكأنها وحوش أسطورية تتأهب للانقضاض على عاثري الحظ الذين تقودهم أقدامهم إلى هذه المتاهة العظيمة من الأشجار.
إنها غابة سحرية، تماما كتلك الغابات المخيفة والموحشة التي سمعتم عنها في القصص الخرافية، أو كتلك التي شاهدتموها في أفلام الرعب الهوليودية. مع فارق أن أوكيغاهارا ليست مجرد خيال .. بل هي حقيقة ماثلة للعيان. كما أن رائحة الموت الثقيلة التي تعبق أجواءها وتنبعث من تربتها وجذوعها وأوراقها ليست طارئة عليها ولا وليدة الحاضر، لكنها ترتبط بماضي مرعب وقاتم بقي عالقا ومحفورا في الذاكرة الجماعية للشعب الياباني حتى اليوم.
غابة العفاريت
|
اوباستي .. ممارسة قديمة قاسية وعديمة الرحمة كان يفعلها اليابنيون .. |
بعض اليابانيون يطلقون على اوكيغاهارا أسما آخر، هو "غابة العفاريت"، وهم لم يطلقوا عليها هذا الاسم لمجرد كونها غابة مظلمة ومخيفة، ولا لأنها خالية تقريبا من الحياة الحيوانية بصورة محيرة وغامضة، فحتى الطيور تتجنبها ولا تعشش فوق أغصانها! .. لكن لا .. ليس هذا هو السبب .. بل هو أمر آخر مرتبط بممارسة يابانية قديمة .. ممارسة قاسية ومؤلمة طواها النسيان منذ عهد بعيد، لكن ذكراها وصرخات ضحاياها ما زالت تتردد في جنبات الغابة الملعونة حتى يومنا هذا.
ففي الماضي، تحديدا في أوقات المجاعات والكوارث التي يعز ويندر فيها الطعام، كان بعض اليابانيون يمارسون تقليد أوباستي (Ubasute )، حيث كانوا يأخذون المرضى والضعفاء وكبار السن من أفراد عائلاتهم إلى اوكيغاهارا لينبذوهم في تلك الغابة المظلمة والموحشة التي تمتد على مساحة 35 كيلومترا مربعا. هذه التضحية البشرية كانت تعني بقاء أفواه أقل لكي يتم إطعامها وبالتالي تزايد احتمالات النجاة من الموت جوعا بالنسبة لبقية أفراد العائلة.
|
يموتون ببطء في الغابة الموحشة .. |
ويقال بأن أولئك المساكين وعاثري الحظ المنبوذين في الغابة كانوا يقضون نحبهم ببطء جوعا و بردا .. أو جراء الخوف والرعب الذي كان يكتنف أجسادهم الهزيلة بسبب بقائهم لوحدهم في ذلك المكان المرعب. ويقال أيضا بأن البعض منهم كان يختصر طريق العذاب مرة واحدة، فكان يجمع أطراف ثيابه ويربطها معا كالحبل ليشنق نفسه بها على أقرب جذع شجرة.
أولئك البؤساء كانوا يموتون وهم في قمة الغضب والشعور بالظلم والحيف، كيف لا وقد جرى نبذهم من قبل أقرب وأعز الناس أليهم .. تصور عزيزي القارئ أن يستدرجك أفراد عائلتك إلى غابة أو صحراء لينبذوك ويتركوك تموت هناك وحيدا .. ماذا سيكون شعورك يا ترى؟ ..
|
يوري .. اشباح ناقمة وغاضبة .. |
حتما سيعصف الغضب بكل ذرة في كيانك .. وستصرخ ألما بلا هوادة بسبب الغدر والظلم الذي حاق بك .. فلا ألم ولا وجع أشد وأفظع و أنكى من وجع قلب وحيد .. مكسور .. مغدور .. صدقني عزيزي القارئ ..
ولهذا السبب بالذات، يؤمن الكثير من اليابانيين بأن أرواح أولئك المنبوذين الغاضبين لازالت تجوب الغابة حتى اليوم على الرغم من مرور قرون طويلة على موتهم، لازالت صرخاتهم الحانقة تشق سكون ليل الغابة البهيم، لقد تحولوا إلى أرواح شريرة تدعى يوري (Yūrei ) ، أرواح تسعى للانتقام من البشر، وويل لعاثر الحظ الذي تطاله مخالب تلك الأرواح الثائرة.
ربما لا تصدق هذا الكلام عزيزي القارئ .. لكن الغابة مسكونة فعلا بطاقة وقوة شريرة غامضة، ففي كل ركن من أركانها .. وفي كل شبر، على كل غصن وفرع، ترك الموت أثرا لا يمحى.
وفي الظلمة، بين الجذوع الموحشة التي ما أبصرت يوما نور شمس أو قمر، مر ملك الموت بهدوئه المعتاد، تتبعه هالة من دخان وسواد، ليستل مزيدا من الأرواح المضطربة .. ففي اوكيغاهارا لا تنضب الجثث أبدا!.
جنة المنتحرين!
لماذا يموت الناس في الغابة ؟ .. أو بالأحرى لماذا يأتون ليموتوا فيها .. لا أحد يعلم! .. فمنذ عقود طويلة والناس يأتون بلا انقطاع من جميع أنحاء اليابان لكي ينتحروا في اوكيغاهارا، يقطع بعضهم مئات الأميال بسيارته ليشنق نفسه على جذع شجرة في تلك الغابة المظلمة .. أليس ذلك عجيبا؟!.
الإحصاءات الرسمية تشير إلى أنه ومنذ ستينيات القرن المنصرم كان هناك حوالي مائة شخص ينتحرون سنويا في أوكيغاهارا، هذه النسبة ليست ثابتة طبعا، فهي قد ترتفع وتنخفض من عام إلى آخر. في عام 2004 مثلا انتحر 108 أشخاص داخل الغابة، فيما حاول 247 شخص الانتحار فيها عام 2010 ولم ينجح سوى 54 منهم في قتل أنفسهم. طبعا هذه الأعداد لا تتضمن الجثث التي لم يعثر عليها والتي قد لا يعثر عليها أبدا بسبب كثافة الغابة ووسعتها، فبعض أجزاء الغابة مازالت بكرا لم تطأها قدم إنسان، وهي تحتوي على عدد غير قليل من الكهوف العميقة، ولهذا السبب لا يعثر على جثث المنتحرين عادة إلا بعد مرور فترة طويلة على موت أصحابها، غالبا بعدما تكون قد تفسخت وتحللت بصورة سيئة.
غالبية المنتحرين في أوكيغاهارا يفضلون الموت شنقا على جذع شجرة، فيما يختار آخرون تناول جرعة زائدة من العقاقير والمخدرات. أغلبهم يأتون بسياراتهم الخاصة التي يتركونها عند أطراف الغابة ولا يعودون أليها أبدا، البعض منهم قد يخيم لعدة أيام قبل أن ينجح في قتل نفسه. والعديد منهم يحمل معه نسخة من كتاب اتارو تسورومي الشهير والمثير للجدل "الدليل الكامل للانتحار"! .. هو كتاب يقدم المساعدة والإرشاد للأشخاص الراغبين في الانتحار عن طريق عرض وسائل مختلفة ومتنوعة لقتل أنفسهم وبيان مقدار الألم والوقت اللازم لكل وسيلة.
|
تم وضع لافتات في جميع ارجاء الغابة لثني الناس عن الانتحار .. |
الحكومة اليابانية حاولت الحد من ظاهرة الانتحار داخل اوكيغاهارا بمختلف الوسائل إلى درجة أنها صارت تمتنع عن نشر الإحصائيات المتعلقة بعدد المنتحرين في الغابة وذلك في محاولة منها لتحجيم شهرة الغابة والتقليل من سمعتها كجنة للمنتحرين. علاوة على ذلك قامت الحكومة بنصب لافتات في طول الغابة وعرضها تحذر الناس من الموت في أوكيغاهارا وتحاول ثني أولئك الراغبين في الانتحار من المضي قدما في مسعاهم بعبارات شتى من قبيل :
"حياتك هدية ثمينة من والديك فلا تهدرها".
"الرجاء راجع نفسك قبل أن تقتلها".
"الرجاء أتصل بالشرطة قبل أن تقوم بقتل نفسك".
"لا داعي لقتل نفسك فجميع المشاكل قابلة للحل".
النوم مع الجثث!
|
انتحر داخل خيمته .. ربما بالسم او جرعة زائدة من المخدرات .. |
العثور على الجثث في اوكيغاهارا يعد أمرا روتينيا بالنسبة للموظفين المسئولين عن الغابة، إذا يكاد لا يمر أسبوع من دون أن يعثروا على جثة أو جثتين مرمية هنا وهناك في أرجاء الغابة الواسعة، فيقومون برفع الجثة ويأخذونها معهم إلى المحطة الحكومية المكلفة بحماية وإدارة الغابة. لا تنتهي مهمة الموظفين عند هذا الحد، فعلى أحدهم أن ينام مع الجثة ليلا !! ..
نعم عزيزي القارئ .. صدق أو لا تصدق .. يجب على احد الموظفين أن يمضي ليلته برفقة الجثة.
ولأن الجميع طبعا لا يحبذون النوم مع جثة، خصوصا حينما تكون متحللة ومتعفنة، لهذا دأب الموظفين على الاقتراع فيما بينهم، والخاسر في القرعة عليه أن ينام مع الجثة داخل غرفة خشبية صغيرة لا تحتوي سوى على سريرين، واحد له .. والآخر للجثة.
لكن لماذا يفعلون ذلك ؟ ..
|
صورة حقيقية .. انتحر شنقا .. |
للإجابة على هذا السؤال ربما علينا أن نلقي نظرة خاطفة وسريعة على عقائد ما بعد الموت لدى اليابانيين ..
فاليابانيون يؤمنون بأن لجميع البشر روح، وبأن هذه الروح تتحرر من الجسد بعد الموت لتنتقل إلى عالم البرزخ، وهو مكان للانتظار، أشبه ما يكون بمرحلة انتقالية بين الدنيا والآخرة، هناك تنتظر الأرواح حتى ينتهي أفراد عائلتها من تأدية طقوس التأبين والجنازة، وفي حال أجريت جميع تلك الطقوس بصورة صحيحة ودقيقة طبقا للمعتقدات الدينية، ونال الميت الاحترام الذي يستحقه، فأن الروح ستحرر من البرزخ لتلتحق بأرواح أسلافها، وستصبح حامية لأفراد عائلتها الأحياء، وستزورهم كل عام خلال مهرجان الأرواح.
لكن إذا لم تجري الطقوس كما يجب، أو إذا مات الشخص ميتة عنيفة، كأن يتعرض للقتل أو ينتحر، أو مات وهو غاضب أو ساخط أو حزين .. الخ .. فأن الروح لن تتحرر من البرزخ، وستتحول إلى يوري، وهي أرواح غاضبة تظل تنعق طوال الليل، وبإمكانها الرجوع إلى الدنيا والتأثير في حياة البشر والتلبس بأجسادهم. وللتخلص من اليوري، أو بالأحرى تخليصه من أسباب بقاءه بين الأحياء، يجب أولا إنهاء الأسباب التي تمنعه من المغادرة، كأن يحظى بمراسم الجنازة بصورة صحيحة وأن تحظى جثته بالاحترام اللائق، ولهذا السبب بالذات، وكنوع من الاحترام، ولتحرير روحه ومنحها الراحة والسلام، يقوم موظفو الغابة بالمبيت مع جثث الأشخاص المنتحرين.